[“كتب” هي سلسلة جديدة على صفحات “جدلية” نستضيف فيها المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بفصل من الكتاب.]
"بعد ما بعد الحداثة: مقالات في الأدائية وتطبيقات في السرد والسينما والفن" تأليف: راؤول ايشلمان. ترجمة: أماني أبو رحمة. عن دار أروقة.
جدلية: كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
أماني أبو رحمة: بدأت فكرة الكتاب منذ عامين تقريباً وأثناء بحثي عن موضوعات كتاب “ما وراء القص: دراسات في رواية ما بعد الحداثة”، كنت أقرأ وأبحث كثيراً لاختيار الموضوعات المناسبة. ولفت انتباهي أثناء البحث حديث منظري ما بعد الحداثة البارزين من أمثال ليندا هتشيون وإيهاب حسن ووليم غاس عن نهاية ما بعد الحداثة ـ وأن تطبيقاتها الفنية والأدبية والمعمارية قد أخذت بالتلاشي لتحل محلها تطبيقات جديدة تستند إلى نماذج فكرية إنسانية مغايرة. شغلت القضية فكري حتى أنهيت كتاب ما وراء القص. وبدأت البحث عن “نهاية ما بعد الحداثة” أو “موت ما بعد الحداثة” أو “بعد ما بعد الحداثة”. وأذهلني الكم الهائل من التنظير المتعلق بالموضوع وعدد الكتب والدراسات التي طرحت منذ ما يزيد عن عقدين تتحدث عن احتضار ما بعد الحداثة وتحول النموذج الفكري الإنساني بعيداً عنها على أصعدة مختلفة. وشرعت في تقصي التنظيرات والبحث عن الكتب التي تعالج القضية معالجة جادة. فعثرت على ما يقارب أثني عشر مصطلحاً يمكن أن أصفها بالجدية والتميز وشمولية الطرح والمعالجة. أذكر على سبيل المثال مصطلح ما بعد الألفية لإريك غانس ومصطلح الحداثة الزائفة لآلان كيربي والحداثة الآلية لروبرت صاموئيل والحداثة المغايرة لنيكولاس بيريو والأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة لراؤول ايشلمان. جمعت هذه المصطلحات وما كتب عنها وضمنتها في كتابي “الفضاءات القادمة: الطريق إلى بعد ما بعد الحداثة”. كان مصطلح الأدائية ذي تأثير شخصي عميق بالنسبة لي لعدة أسباب اذكر منها أن المصطلح يتضمن نظرية نقدية أو لنقل أدوات للنقد الأدبي تعد جديدة ومغايرة ولكنها تتناول الوسائط الأدبية التقليدية كالرواية والسينما والفن وترتكز أيضاً على نظرية أنثروبولوجية بعد ما بعد حداثية تغاير نظرية “العنف المقدس” وأن كانت تتقاطع معها في جوانب عدة ولب هذه النظرية التي أطلق عليها واضعها ايرك غانس “الانثروبولوجيا التوليدية” هو إرجاء العنف باللغة.
كما أنها تنطوي على مفهوم فلسفي أعمق يعود بالجماليات إلى كانط وبالفلسفة إلى الواحدية مقابل الاثنينية ما بعد الحداثية . شمولية المصطلح وغرابة النظرية هما ما دفعاني إلى التعمق فيها. وبدأت على هامش اشتغالي في كتاب “الفضاءات القادمة: الطريق إلى بعد ما بعد الحداثة” و تقصي النظريات بعد ما بعد الحداثية، أجمع ما كتبه ايشلمان بخصوص ادائيته؛ هذا المصطلح القديم الجديد. وهكذا عثرت على مادة مميزة كتبها ايشلمان منها فصل من كتابه “الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة: الجمال الأمريكي” والصادر عن مجموعة ديفيس 2008. وتطبيقات نقدية تتناول روايات وأفلام صدرت بعد العام 2000 وأسست لمغايرة نقدية تلامس جوهر المصطلح كما أراده ايشلمان أذكر منها: “قصص بسيطة” لإنغو شولز (رواية عرضية حول إعادة توحيد المانيا مع تضمينات أميركية بامتياز)، و“إله الأشياء الصغيرة ) لأرونداتي روي (أدب ما بعد الاستعمار)، و”القارئ” لبرنهارد شيلينك (معالجة تشوبها الإثارة لصراعات الأجيال في مرحلة ما بعد الهولوكوست في ألمانيا)، و”خزانة الملابس” لأولغا توكارتشوك ( قصة قصيرة تصويرية للكاتبة البولندية الأكثر شعبية في مرحلة ما بعد الشيوعية) و”فندق العالم” لآلي سميث و “حياة باي” ليان مارتيل. ومن الأفلام أذكر “البلهاء” للارس فون ترير (1997)؛ و “الاحتفال” لتوماس فينتربيرغ (1998)؛ و “الكلب الشبح” لجيم جارموش (1999)؛ و”اركضي لولا اركضي” لتوم تاكوير (1999). وفي السينما السائدة نجد الفيلم الحائز على جائزة الأوسكار “الجمال الأمريكي” (1999) ، فضلاً عن فصول تتناول الفن والعمارة والشخصية في حقبة بعد ما بعد الحداثة.
أنهيت الإعداد والترجمة ثم راسلت المؤلف راؤول ايشلمان الذي أبدى إعجابه الشديد بفكرة ترجمة المادة إلى العربية ووافق على كتابة مقدمة الكتاب وهكذا أنهيت العمل ودفعته لناشر كتابي “فضاءات”: أروقة للدراسات والترجمة والنشر. أما فصول الكتاب فهي :
•الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة (الجمال الأمريكي)
•بعد ما بعد الحداثية: الأدائية في الأدب
•التحقق من الفترة التاريخية: الأدائية في “فندق الكابيتال” لأولغا توكارتشوك وما بعد الحداثة المتأخرة في “فندق العالم” لألي سميث (مع ملاحظات حول رواية “إله الأشياء الصغيرة” لروي أرونداتي ، و”كنيسة السبعة” لميلو أربان.
•الأدائية في السينما
•الشخصية الأدائية
•الأدائية في الفن
- ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب ؟
أ.أ: ربما أن الفكرة الأساسية في الكتاب هي إعلان المؤلف عن موت ما بعد الحداثة ومحاولته صياغة مصطلح يناسب المرحلة القادمة أي بعد ما بعد الحداثة فكان مصطلح الأدائية.
لاحظ ايشلمان أن جملة من الكتابات التي تراكمت منذ بداية الألفية الثانية تحيد عن قواعد ما بعد الحداثة غير المكتوبة بأمرين: الأول، هو أنها تحكي قصصاً يصل فيها الأبطال إلى مرحلة التجاوز والتعالي على العالم المادي. وثانياً، وربما الأهم، هو أنها تخدع القارئ بجعله يتخذ مواقف بوذية نحو العالم سواء أراد ذلك أم لم يرد. وبسبب هذه الحيل فإن القارئ يعتقد أن الكتاب يسخرون منه على غرار التهكم الساخر أو المفارقة ما بعد الحداثية. فالإستراتيجية السردية هي حيلة أو مصيدة تقترح أننا لا يمكن أن نصل إلى المعرفة أو الحقيقة إلا من خلال التعالي، عكس الطريقة النقدية الموظفة في ما بعد الحداثة.
ويمكن تحديد الأدائية ببساطة بوصفها الحقبة التي ابتدأ فيها التنافس المباشر ـ أو الإزاحة ـ بين المفهوم الموحد للعلامة واستراتيجيات الغلق من ناحية، والمفهوم المتشظي للعلامة واستراتيجيات انتهاك الحدود المميز لما بعد الحداثة من ناحية أخرى. ويبقى السؤال الأهم الذي حاول المؤلف الإجابة عليه هو كيف يمكن للاشتغالات الأدائية أن تذهب باتجاه تأسيس واحدية oneness جديدة دون السقوط في فخاخ الميتافيزيقيات القديمة؟ يكمن الجواب من وجهة نظر الكتاب في التمكين الراديكالي الجديد للإطار والذي يكون بتوظيف مزيج من الجماليات والأدوات الإلزامية القديمة.
تُركب الأعمال الأدائية بطريقة لا تترك للقارئ أو المشاهد ـ في البداية ـ خياراً سوى الانحياز لحل وحيد ملزم لكل المشكلات التي يثيرها العمل قيد التناول . وبكلمات أُخرى فإن المؤلف يفرض علينا حلاً معيناً من خلال توظيف وسائل دوغمائية، طقوسية، أو أي وسائل قسرية أخرى، الأمر الذي يقود إلى تأثرين مباشرين. فمن ناحية، يفصلنا هذا الإطار القسري ـ مؤقتاً على الأقل ـ عن السياق المحيط به من حوله، ويدفعنا دفعاً داخل حدود العمل، حتى إذا ما أصبحنا في الداخل، فلا مفر لنا حينها من التماهي مع شخص أو فعل أو موقف ما بطريقة لا يمكن أن تكون معقولة إلا ضمن حدود العمل ككل. وهكذا فإن الأدائية تسعى لامتلاك كعكة ما بعد الميتافيزيقية وأكلها أيضاً. فمن ناحية أنت مرغم على التماهي مع شيء غير معقول أو غير قابل للتصديق ضمن الإطار ـ ويمكن تلخيص ما أعتبره السمات الأربع الأساسية للأدائية فيما يلي:
1. الصيغة السيميائية الأساسية للأدائية هي الواحدية monist. وهي تتطلب تكامل الأشياء things أو الواقعية thingness ضمن مفهوم العلامة. وقد وجدت المفهوم الواحدي للعلامة الأكثر فائدة حتى الآن هو فكرة ايريك غانس عن الإشاري. والإشارية تعني أن شخصين على الأقل، رغبة منهما في إرجاء العنف في موقف صراع محاكاتي، اتفقا حدسياً على علامة حاضرة أشارت إلى، وألهت، وزينت أداءها الارجائي للعنف. وهذا المشهد الاشاري البدئي، الذي كان فيه الإنسان واللغة والدين والجماليات جميعهم حاضرين وللمرة الأولى مشهد افتراضي بطبيعة لحال. وتجسد الإشارية في تفسيري التاريخي الشخصي، الآلية السيمائية المتولدة في الحقبة الجديدة أكثر من أي مفهوم أحادي منافس. وبكلمات أخرى فإن الاشارية تشير إلى الوعي المتزايد بالحقبة الجديدة. و ستكون وظيفة الجماليات الأدائية، تبعاً لذلك، هي وصف التجليات المختلفة للاشارية في الأعمال الفنية وإظهار كيف أنها تجعل هذه الأعمال ذات جاذبية بمصطلحات الواحدية وليس بعقلية ما بعد الحداثة. وقد خصص الكتاب لتحقيق هذا المشروع .
2. أما الأداة الجمالية الخاصة بالأدائية فهي التأطير المزدوج. ويرتكز الإطار المزدوج على التوافق بين الإطار الخارجي (بناء العمل نفسه) والإطار الداخلي (المشهد الاشاري من أي نوع كان). ويبنى العمل بطريقة تضمن تنقل فرضيته الجدلية الرئيسية ذهاباً وإياباً بين هذين الموقعين: بحيث يقوي منطق الأول الثاني بطريقة دائرية مغلقة. والنتيجة هي حشو أدائي يسمح بتداول لانهائي لرموز ميتافيزيقية مشكوك فيها معرفياً، ولكن لا يمكن دحضها شكلياً ضمن حدوده. وبدورها فإن هذه الرموز الميتافيزيقية صالحة فقط ضمن إطار عمل محدد وتعزز بنائيتها الواضحة عزل العمل أو الاعتراف به بوصفه مسلمات غير قابلة للطعن كما أنها تؤسس قسراً حالته الجمالية ـ بوصفه عالماً من الخبرة الايجابية الموضوعية والمتميزة. ولأنه من السهل تحدديها وفضحها، فإن هذه الرموز الميتافيزيقية تجبر القارئ أو المشاهد على الاختيار بين الجمال غير الحقيقي للعمل المغلق أو الحقيقة المفتوحة المبتذلة في سيقنتها التي لانهاية لها. وتحاول الإعمال الفنية الأدائية أن تجعل المشاهد أو القارئ يعتقد بدلاً من أن يقتنع بالمجالات المعرفية. وهذا بدوره قد يمكنه من افتراض مواقف أخلاقية وإيديولوجية ما كان لهم أن يأخذوها بغير هذه الطريقة. وبمصطلحات تلقي القارئ، فإن الأدائية تكون ناجحة عندما تتمكن من تغير نموذج اعتقاد القارئ بطريقة خاصة، و عندما يبدأ القارئ في إسقاط هذا النموذج الاعتقادي الجديد على الواقع.
3. والمركز الإنساني في الأدائية هو الشخص الكثيف المبهم لأن المتطلب الشكلي الأبسط للتحول مرة أخرى إلى شخص كلاني هو شخصيات أدائية مكررة أو محشوة ـ حتى يتكون شخصاً فإن الشخص لا بد أن يفصل نفسه عن سياقه بطريقة أو بأخرى ـ توطد موقفها عن طريق الظهور مبهمة وكثيفة بالنسبة للعالم من حولها. هذه القتامة المبهمة ليست مرغوبة بحد ذاتها، ولكنها تشكل نقطة البداية لتطور ممكن آخر. وأفضل طريقة لتقيم هذا التطور هو قياس ما إذا كان الشخص (أو إلى أي درجة ) قد تجاوز الإطار المزدوج الذي حدث أن وجد نفسه فيه. وفي الأنواع السردية، فإن قدرة الإنسان على تجاوز الإطار هي مؤشر معياري على الأدائية الناجحة أما في السرد النفسي فإن التجاوز جزئي بالضرورة، في حين أنّه يمكن تحقيقه كلياً في السرد الفانتازي. في الأنواع المعمارية المصورة، التي هي بطبيعتها ثابتة، فإننا نواجه حالات مفارقة من التشبع أو التهديد بالخطر impendency التي تفرض علينا ظروف واشتراطات التجاوز دون إظهار كيف أن التجاوز هو في نهاية المطاف كامل ومنجز.
4. تبرز الإحداثيات المكانية والزمانية في الأدائية في الصيغة المؤمنة. وهذا يعني أن تأطير الزمان والمكان بطريقة تمنح الأشخاص فرصة حقيقية لتوجيه أنفسهم ضمن تلك الأُطر ثم تجاوزها بطريقة أو بأخرى. بسبب تركيبيتها وتصنيعها الواضح، فإن التأطير يجعلنا نفترض وجود كاتب ضمن فرض إرادته علينا بوصفها (الإرادة ) نوعا من التناقض أو الأحجية التي لها معنى حقيقي لكنه خارج نطاق معرفتنا. و فيما يتعلق بالحبكة ، فإننا نجد صراعاً أساسياً بين قهرية الإطار المؤمن المكانية والزمانية ونضال الأشخاص (بشراً أو رموزاً) للتغلب عليه. وبالنسبة للتمثيل المكاني (في الهندسة المعمارية)، نجد توتراً أساسياً بين محاولة المهندس المعماري إحداث تأثير التجاوز والتفوق وبين والقيود المادية التي تفرضها المادة التي يستخدمها: بمعنى أن الفتة المؤمنة الموسعة دائماً ما ترافق مع لفتة بشرية محدودة.
- ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
أ. أ.: كانت المشكلة الأساسية هي أنني لم أقرأ الأعمال الأدبية التي حللها ايشلمان ولم أشاهد أيضاً معظم الأعمال السينمائية، فاستغرق الأمر أياماً طويلة على هامش البحث والترجمة حتى أشاهد الأفلام واقرأ ما تحصلت عليه من روايات لأتمكن من عرض أفكاره بالطريقة اللائقة. أضفت إلى الكتاب أحياناً تعريفاً بالأفلام والروايات كما بحثت عن اللوحات الفنية على الإنترنت ووضعتها بين يدي القارئ ليتمكن أيضاً من متابعة الخطوط المغايرة في تحليل ايشلمان. أذكر أنني بحثت عن الفيلم الروسي Kukushka (الوقواق)، ويتحدث الفيلم عن ثلاثة أشخاص لا يفهمون لغة بعضهم البعض تقذف بهم ظروف الحرب الروسية الفنلندية في عام 1944 إلى مكان واحد: امرأة ألمانية شابة فقدت زوجها في الحرب، و ضابط روسي (وشى به مساعد موثوق به للشرطة السرية)، و قناص فنلندي يقاتل لصالح الألمان (الذين خانوه ووشو به). ولأنهم غير قادرين على شرح ظلال محنتهم السياسية والشخصية لبعضهم البعض، فقد اضطروا إلى التعامل مع وسائل اتصال إشارية بحتة (مدبلجة شفوياً بحيث تتيح لنا أن نفهم ما تقوله الشخصيتان الفنلندية والألمانية في الواقع). المفارقة أيضاً أن الفيلم غير مترجم إلى الانجليزية وشاهدته كاملاً بالروسية لأكون الشخص الرابع بعد أبطال الفيلم الذي يحاول التعامل مع وسائل اتصال إشارية بحتة. والإشارية بالمناسبة هي أحد مصطلحات الأدائية التي باتت كالأدائية نفسها تحمل مدلولات خاصة يطرحها المؤلف. هذا فضلاً عن وجود مصطلحات خاصة بالمفهوم لم يسبق ترجمتها أو حتى توظيفها بالطريقة التي يريدها المؤلف، وتطلبت مني لذلك جهداً إضافياً في الترجمة لانتقاء المفردة الأقرب والأكثر دلالة.
- كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
أ. أ.: الكتاب كتاب في النقد الأدبي. ويحاول صياغة أدوات نقدية مغايرة يمكن تطبيقها على الاعمال الفنية التي غادرت ما بعد الحداثة. يتناول الكتاب الوسائط الفنية التقليدية (غير الدجيتالية إن جاز التعبير) . أما أهميته من وجهة نظري فهو تقصيه الواسع النطاق لمظاهر مغادرة ما بعد الحداثة في الثقافة الغربية على مدى عقدين من الزمن. إذ بقطع النظر عمّا إذا كان مصطلح الادائية يصلح لتوصيف مرحلة بعد ما بعد الحداثة أم لا، إلا أن المتابعة العريضة التي قدمها المؤلف تثبت بشكل قاطع انحراف النموذج الثقافي الغربي والعالمي ربما عن ما بعد الحداثة.
- ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية؟
أ. أ.: يأتي هذا الكتاب رابعاً بعد كتابي “علم السرد: مدخل الى نظرية السرد ” الذي ترجمته ليان مانفريد، وكتاب “ما وراء القص: دراسات في رواية ما بعد الحداثة” الذي جمعت مادته وترجمتها أيضا، ثم كتاب “الفضاءات القادمة: الطريق الى بعد ما بعد الحداثة” الذي عرضت فيه ما يزيد عن إثني عشر مصطلحاً كلها تنظر لمرحلة بعد ما بعد الحداثة في الثقافة الغربية ومن ضمنها أيضاً مصطلح الأدائية.
- من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأملين أن يصل إليه القراء؟
أ. أ.: الكتاب معرفي بالدرجة الأولى وأتمنى وصوله لكل مهتم بالأدب والثقافة. ولكنني وكما ذكرت سابقاً أرى أنه يهم النقاد و المشتغلين بالسرد والسينما والفن .
- ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟.
أ. أ.: أعمل على إعداد كتاب جديد يتعلق بالعلاقة الجدلية الشائكة بين الرواية والتاريخ مع التركيز على اقتحام الذاكرة أو الذكريات لشبكة العلاقة تلك منذ مطلع الألفية الثالثة أو قبلها بقليل. أتمنى أن أوفق في عرض العلاقة نظرياً وتطبيقياً.
السيرة الذاتية :
أماني أبو رحمة: باحثة ومترجمة فلسطينية صدر لها:
• “علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد” تأليف يان مانفريد وترجمة: أماني أبو رحمة. دار نينوى للنشر والتوزيع .دمشق. 2011
• “ما وراء القص: دراسات في رواية ما بعد الحداثة” مجموعة مؤلفين . ترجمة: أماني أبو رحمة. دار نينوى للنشر والتوزيع . دمشق 2010.
• “الفضاءات القادمة: الطريق إلى بعد ما بعد الحداثة” أماني أبو رحمة ومعن الطائي . دار أروقة للدراسات والترجمة والنشر. القاهرة 2012.
راؤول ايشلمان: فيلسوف وناقد أدبي ومنظر ثقافي ألماني ـ أمريكي من أصل سلافي , يُدرس ايشلمان حاليا الأدب المقارن في جامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ. وقد حصل على شهادة البكالوريوس عام 1978 من جامعة روتجرز الأمريكية والدكتوراه في الأدب السلافي من جامعة كونستانز عام 1988، وألف أيضاً أطروحة في الموضوع ذاته وقدمها إلى جامعة هامبورغ في عام 1995. وضع ايشلمان ثلاثة كتب هي “غوملف والحداثة الكلاسيكية الجديدة”، فرانكفورت . 1993، و”ما بعد الحداثة السوفيتية المبكرة” فرانكفورت.1997. و“الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة: الجمال الأمريكي” والصادر عن مجموعة ديفيز الأمريكية عام 2008. فضلاً عن مقالاته المتعددة الاهتمامات بالألمانية والسلافية. يعد ايشلمان من أوائل الذين أشاروا إلى نهاية ما بعد الحداثة وبادروا إلى دراسة سمات وملامح المرحلة القادمة. ولأيشلمان اهتمامات انثروبولوجية واضحة في مقالاته ومساهماته في المؤتمرات والندوات التي يعقدها للترويج لمفهومة (الأدائية) التي يرى أنها ستحل محل ما بعد الحداثة التي آذنت بالأفول.
مقطع من الكتاب
“تعرض ما بعد الحداثة فخاً محكماً استثنائياً لا مفر منه في ما يتعلق بالمعنى. وأي محاولة يبذلها المرء في رحلة البحث عن المعنى تذهب أدراج الرياح لأن كل علامة تعد بنوع من المعرفة الأصيلة تكون متضمنة في سياقات يتطلب شرحها تحديد علامات أكثر. وفي محاولته تحديد نفسه من خلال المعنى، فإن الشخص في ما بعد الحداثة يغرق في طوفان المرجعيات المتقاطعة التي تتزايد في الاتساع أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك فإنه حتى لو تشبث بالشكل فلن تكون النتيجة أفضل بحال من الأحوال، لأن ما بعد الحداثة لا ترى في الشكل ترياقا للمعنى، بل انه أثر يقودنا إلى الوراء نحو سياقات موجودة بالفعل ومثقلة سيميائياً. كما أن أي محاولة لتثبيت المعنى تتبعثر على أشكال متداخلة وكل توظيف لشكل يرتبط بمعان موجودة بالفعل وكل مقاربة للأصالة تعود بنا إلى علامة مغايرة. تنتهي رحلة الشخص الباحث عن المعنى من حيث بدأت: فضاء ما بعد الحداثة الذي يتوسع إلى ما لا نهاية.
أن الخروج من ما بعد الحداثة لن يحدث بوساطة تكثيف البحث عن المعنى من خلال إدراج أشكال جديدة مدهشة أو من خلال العودة إلى منبع الأصالة، و لابد ـ بدلا من ذلك ـ أن نسلك آلية منيعة تماماً ومستعصية على نموذج التشظي والتفكيك والتضخم ما بعد الحداثي. هذه الآلية التي بدأنا نشعر بها مع القوة المتزايدة للأحداث الثقافية في السنوات القليلة الماضية، يمكن أن تُفهم على نحو أفضل بتوظيف فكرة الأداء أو الإنجاز performance.
الأداء بحد ذاته ليس ظاهرة جديدة أو غير معروفة. ففي نظرية الحديث- الفعل لأوستن يشير الأداء إلى فعل اللغة الذي يحقق ما يعد به. أما بخصوص الحدث الفني في ما يسمى بـ "القصص الكبرى "في مرحلة الحداثة فإن الأداء يبرز أو يُغَرِّب الحد الفاصل بين الفن والحياة، أما في ما بعد الحداثة فإن الأداء يدمج جسد الإنسان أو الإنسان نفسه ضمن سياق فني في ما يطلق عليه الفن الأدائي أو الحدوثي أي الفن الحدث. غير أن مفهوم الأداء الذي أقترحه هنا مختلف. لا توظف فكرة الأدائية لإبراز أو لسيقنة الشخص ولكنها توظف للحفاظ عليه: يُقدم الشخص أو (يقدم نفسه) بوصفه وحدة كلية غير قابلة للاختزال مما يعطى القارئ أو المراقب انطباعا بالإلزام. هذا التجسيد الكلي للشخص غير ممكن إلا عندما لا يمنح الشخص سطحاً متمايزاً سيميائياً يمكن استيعابه وبعثرته على السياقات المحيطة. لهذا السبب فإن الشخص الجديد يظهر للمراقب مختزلاً ومتواصلاً بوصفه مفرداً وحيداً أو بسيط الفكر ومتطابق إلى حد ما مع الأشياء التي يمثلها. هذه الكليَّة المغلقة البسيطة تتطلب فاعلية لا يمكن تحديدها إلا بمصطلحات ثيولوجية. لهذا فإنه يخلق ملاذاً تلتجئ إليه تلك الأشياء التي اعتقدت ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية أنها قد انحلت نهائياً: الغايات، والمؤلف، واليقين، والحب، والعقيدة، وأكثر من هذا بكثير.
لم تكن صياغة نموذج الشخص المختزل والكلي على يد الكتاب والفنانين هذه المرة وإنما جاءت من النقاد الذين وقفوا بالضد من (النظرية) أو توافقوا مع ما بعد البنيوية بالحد الأدنى. ففي مقالتهما الموسومة (ضد النظرية) والتي نشرت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي دعا الناقدان ستيفن ناب و ولتر بن مايكلز إلى وحدة أو عدم انفصال جوهريfundamental inseparability بين الحالات الأساسية الثلاث: التأويل بمعنى نية المؤلف، والنص، والقارئ. وبهذه الدعوة إلى الوحدة يعارض الناقدان (النظرية). وتمنح النظرية ،حسب ناب ومايكلز امتيازاً لهذا الجزء أو ذاك من عملية التأويل الكلية بينما تًهْمِل أو تقوض الأجزاء الأخرى (النقد التأويلي يعلي من قيمة نية أو قصد المؤلف، أما التفكيكي فإنه يميز العلامة فيما يهتم النقد النسبي بالقارئ)، كما أنها لم تنتق أو تحسن التطبيق التأويلي ولكنها مثلت، بدلاً من ذلك، محاولة غير مقبولة لأخذ موضعاً خارج التأويل.
إن (النظرية) " هي مسمى لكل طريقة يحاول الناس من خلالها الوقوف خارج ممارسة ما من أجل التحكم فيها والسيطرة عليها دون ممارستها. لا يمكن لأحد الوصول إلى مكان خارج الممارسة وأن على المنظرين أن يوقفوا محاولاتهم وتبعاً لذلك فإن المشاريع النظرية قد وصلت إلى نهايتها ".
هذا الإصرار على الوحدة المطلقة بين المؤلف والعلامة والقارئ له تأثير غير مباشر وإن كان بعيد المدى على إعادة خلق الشخص. لن يحدث التأويل بعد الآن بوساطة الأحداث السيميائية المتضخمة الزائفة التي لا تتصل بالقص والتي تواصل التملص من سابقاتها، ولكنه سيحدث هذه المرة من خلال التنافس بين البيانات الفردية الكلية التي يصنعها أشخاص متفرقون.
وسيعبر الشخص عن نفسه بوساطة الإنجاز الكلي بمعنى تحقيق ما يؤمن به ، في حين يستجوب أشخاص منافسون أفعال الأيمان هذه. إن الأشخاص المضادين للنظرية مبهمون (ليس لديهم مجموعة صفات وخصائص مميزة) ولكنهم حاضرين دائماً ويمتلك القارئ سبيلاً عملياً يوصله إليهم على قاعدة الأداء التأويلي المنفصل والمتماسك.
في سياق مختلف يقارب هذا المعنى ، يجادل والتر بن مايكلز في كتاب صدر عام 1995 بعنوان (الأهلانية، الحداثة، والتعددية الأمريكية ) معارضا البحث عن الهوية الثقافية في الماضي، أو في العرق أو في جذور أجنبية، حيث يقول :"الهوية الثقافية هي الطريقة التي يعيش بها الناس حياتهم في وقت معين، أنها غير مُنْتَجة، بل أنه من مستحيل في الواقع، تأسيس هوية خارج هذا الإطار التجريبي. تعمل النظرية وإيديولوجية التعددية الثقافية على حد سواء بوساطة فصل جزء عن الكل( الدال عن العمل التأويلي , العرق عن الثقافة) وجعل هذا الجزء المفصول ضمن آخر متقلص لا يمكن تحقيقه".
وفي الوقت ذاته الذي وضع فيه ناب ومايكلز مفهومهما (ضد النظرية) وضع الامريكي الروماني ايرك غانس نظريته عن (الأنثروبولوجيا التوليدية ) والتي ترتكز أيضاً على علامة كلية مدركة أدائياً a holistic, performatively conceived sign وعلى شخص مختزل a reduced subject . ويمكن وصف الانثروبولوجيا التوليدية بأنها نظرية معتدلة في أصل اللغة مستوحاة من نظرية الأُضحوية لرينيه جيرار. وفي قلب نظرية الانثروبولوجيا التوليدية نجد موقفاً بدئياً ـ "أزمة المحاكاة" ـ حيث يتنافس أعضاء مجموعة صغيرة لا تعرف اللغة وتوظف لأول مرة علامة لغوية أشارية linguistic ("ostensive") sign لتعيين الكائن موضع الاختلاف أمامهم . ويحدث أن توظيف العلامة الاشارية قد نزع فتيل الصراع المحتمل أو أرجأه: وهكذا تحول النظام الاجتماعي الحيواني الموجود إلى نظام انساني على نحو خاص يرتكز على تمثيل سيميائي بدلا من المحاكاة المادية ("mimesis").وبطريقة مماثلة للقتل التأسيسي founding murder لضحية بريئة في نظرية رينيه جيرار، فإن أول توظيف للعلامة يكتسب فعالية مقدسة هامة: الخبرات الجمعية لفعل التهدية الحادث بوساطة سيميائية بوصفه شيئاً مقدساً. هذه التهدئة، مع ذلك، هي مجرد إرجاء للصراع البدئي المتعلق بالكائن موضع الرغبة: وعلى الرغم من أن العلامة الاشارية تمثل كائناً إلا أنّه لا يمكن طرحها للتوظيف المباشر. ولذلك فإن التمثيل دائما يثير الاستياء resentment، الأمر الذي يهدد باستمرار بحدوث العنف، ولكن التوظيف المجدد للعلامة فقط هو الذي يمكنه أن يؤجل هذا التهديد مرة أخرى. يضفي غانس ـ وبوعي تام ـ على الاختلاف المرجأ الدريدي قدسية ووجودية. فالصيرورة ( السيموزيس: Semiosis) هي تأجيل تهكمي، ولكن هذا الإرجاء لا يوظف في تقصي الأثر والمفارقات اللغوية ، ولكنه يخدم هدفاً مقدساً هو الحفاظ على الشخص في المجموعة السيميائية semiotic collective. وتحتوي العلامة الإشارية دائماً على عنصر المفارقة، لأن العلامة تتظاهر بأنها شيء لا يمكن أن تكونه (شيء عادي). وتحقق العلامة المصالحة من ناحية والاستياء من ناحية أخرى لانها تمثل الاشياء دون أن تضعها تحت تصرف الشخص بالكامل. إن لهذه المفارقة أثار مباشرة على بحث الشخص عن هوية. فبدلا من فشله المستمر في أن يعثر على نفسه في كومة الآثار السيميائية، يشكل الشخص ذاته من خلال جدلية "الحب والكراهية" المتجذرة في العلامة الكلية المرتبطة بالكائن ، وتؤكد هذه الجدلية باستمرار نفسها من جديد في الحياة الثقافية. وإذا ما وضعنا ذلك بعين الاعتبار هذا في الاعتبار، يمكننا أن نقول إن غانس قد بدأ تحولا في اهتماماته من النقد النظري إلى الوصف بعيد المدى للثقافة المعاصرة. فسجلاته “الحب والاستياء المر” والتي تظهر بانتظام على موقعه على الإنترنت، تتناول مؤخراً ما أطلق عليه غانس ما بعد الألفية أو ثقافة بعد ما بعد الحداثة. ومع كل ذلك لم تجد أطروحات ضد النظرية لناب ومايكلز والأنثروبولوجيا التوليدية لغانس قاعدة واسعة في الأوساط الأكاديمية الأمريكية: فأطروحاتهم الاختزالية و المضادة للنظرية لم تحظ بقبول ليس عند البنيويين فحسب ولكن أيضاً لدى جماعات النقد الأدبي التقليدي والتأويلي.
ويمكننا العثور على نسخ أخرى من الأدائية أقل تطرفاً وربما أكثر تأثيراً في ما يطلق عليه اليوم التاريخانية الجديدة New Historicism والتي يمثلها اليوم ستيفن غرينبلانت. ذلك أنه يمكن النظر إليها بوصفها فعلاً شبه متعال يهدف إلى إحياء أداءات الشخص –الإبداع المبكرة. وما على المرء إلا أن يفكر بالسطر الافتتاحي الملغز في “مفاوضات شكسبيرية”: " لقد بدأت بالرغبة في الحديث إلى الموتى". إن دراسة تأثير الممارسات الأدائية على النقد والأبحاث منذ الثمانينيات أمر لا يمكن تناوله هنا بالتفصيل ولكنني سأتطرق إلى مقالتين حديثتين اتسمتا بالأدائية العميقة وهما : “للأشياء المشتركة” لجيديدا بيردي (1999) و”الاشتباه” للناقد الروسي الألماني بوريس غرويس(2000).